يحتفل العالم العربي بذكرى رحيل "أمير الشعراء" أحمد شوقي، الذي وصفه طه حسين بأنه أعظم شاعر عرفته اللغة العربية بعد المتنبي، في حين يراه الناقد والشاعر الكبير شعبان يوسف لا يزال مظلوما، لأن كثيرا من أشعاره لم تنشر بعد بالإضافة إلى دراسات ومقدمات كتبت عنه بأقلام كبار مثقفي عصره ولم يكشف عنها النقاب حتى الآن.
وبرغم التنوع في العواطف كان شوقي شاعر القومية المصرية ولعله أول شاعر جعل من همه وصف مصر في أحلامها وأهوائها وأمانيها، وأول شاعر ذاق ما في مصر من قرارة النعيم والبؤس وإن كان شفى ما في نفسه حين قال في غمز الحكومة التي سمحت بنفيه: "وطن توالت عليه حكومات وحكومات تقول فتجد، وتعمل فتهزل ، ولا تحسن من ضروب الإصلاح إلا أن تولي وتعزل".
في حديثه لشبكة الإعلام العربية "محيط" يضيف الناقد شعبان يوسف أن أحمد أبوالخير سكرتير أمير الشعراء الخاص دون كثيرا من السمات الشخصية لأحمد شوقي، متى كان يكتب، وماذا كان يفعل حين يمرض وكان معروفا عنه الوسوسة من الأمراض، وكيف كانت حساسيته تجاه الشاعر حافظ إبراهيم الذي كان يزعجه فكرة مقارنتهما بل وكان يرى في نفسه الموهبة الأكبر من حافظ حتى أن السكرتير دون في كتابه الذي طبع مرة واحدة عام 1934 م أن شوقي كان يرشي الكتّاب كي لا يكتبوا عن حافظ إبراهيم!.
يضيف يوسف: هناك مقدمة نشرها أحمد شوقي في الطبعة الأولى من ديوانه عام 1907 تحمل وجهة نظره في الشعر ولماذا يكتب، وهي التي رفعها إلى الخديوي إسماعيل وذيلها بتوقيع "عبدك المخلص أحمد شوقي" .
وهي عبارة تنم عن الحقيقة، فمعروف أن أحمد شوقي كان مخلصا للخديو إسماعيل حتى كتب قائلا: "ولدت بباب إسماعيل"، ويروي عن الخديوي أنه قال عن شوقي حين كان طفلا أنه سيصبح مشهورا وذو جاه ومحبا للمال، فقد كان شوقي وهو طفل مشرئبا بنظره لأعلى دوما، ولم ينظر إلى الأرض أبدا إلا حين ألقى الخديوي بقطعة من الذهب على الأرض، مما حدا بالخديوي ان يقول عنه هذا!.
ويرى يوسف أن شوقي قامة كبيرة رغم محاولة بعض الشوام مثل أدونيس إهانته والتعامل معه باعتباره شاعر نمطي، غير متجدد، لم يأت بجديد وهي برايه أيضا محاولة لنسف الشعرية عن الحياة المصرية بشكل عام.
كما يرى الناقد أن خير احتفاء بأحمد شوقي يكون عن طريق إعادة طبع الكتب المجهولة عنه والمقدمات التي كتبها لدواوينه، تلك الكتابات التي تتحدث عن شوقي الإنسان بضعفه وقوته مثلما يفعل الغرب مع مثقفيه الكبار، وهو دور يمكن أن يضطلع به المجلس الأعلى للثقافة بأن يصدر مجلدا كبيرا بالصور عن أحمد شوقي مثلما فعلوا مع تشيخوف.
يروي زكي مبارك في كتابه "أحمد شوقي" أن شوقي في أخريات أيامه أفرط في الإشادة بمحاسن الشام ولبنان مفسرا ذلك بأنه كان لا يحب إلا من يروي شعره وكان هواه مقصورا على من يؤمن بأنه أشعر الناس، وقد وجد في سوريا ولبنان جماعات كثيرة تعرف من سرائر شعره أكثر مما يعرف وتذهب في تمجيده إلى آفاق لا يطيف بها الخيال..
ولذلك – يواصل زكي مبارك – تلطف شوقي في الحديث عن المسيحية لمراعاة عشاق شعره من النصارى العرب، و كما يروي الكتاب هو أنه وجد في نصارى لبنان رجالا يؤمنون بأدبه الرفيع فجازاهم وفاء بوفاء، ومما جاء في مدحه للشام:
خلقت لبنان جنات النعيم وما نبئت أن طريق الخلد لبنان
حتى انحدرت إلى فيحاء وارفة فيها الندى وبها "طي" و"شيبان"
يافتية الشام شكرا لا انقضاء له لو أن إحسانكم يجزيه شكران
ما فوق راحاتكم يوم السماح يد ولا كأوطانكم في البشر أوطان
وخلاصة القول كما يقول الكتاب أن عواطف شوقي منوعة الأصول والفروع فقد سما بنفسه عن الشعبوية ورأى أن يكون شعره ميراث الشرق على ما فيه من اختلاف النوازع والميول:
كان شعري الغناء في فرح الشرق وكان العزاء في أحزانه
قد قضى الله أن يؤلفنا الجرح وأن نلتقي على أشجانه
كلما ان بالعراق جريح لمس الشرق جنبه في عمانه
وعلينا كما عليكم حديد تتنزى الليوث في قضبانه
نحن في الفقه بالديار سواء كلنا مشفق على أوطانه
أمير الشعراء أحمد شوقي
لعنة الفراعنة
هناك خرافة تقول أن الفراعنة يلعنون من ينبش قبورهم بعد الموت، فقد وجد على كثير من القبور المصرية دعوات على من ينبشون قبور الملوك.
فقد أهدى اللورد كارنارفون إلى بنت ملك الإنجليز عقدا من العقود المصرية القديمة ففرحت به فرحا عظيما وأثابت مهديه أجزل الثواب فلما سمعت أن اللورد كارنارفون لسعته بعوضة فمات نزعت العقد من جيدها لئلا تلاحقها لعنة الفراعنة وعن هذه القصة يقول شوقي :
لا تسمعن لعصبة الأرواح ما قالوا بباطن علمهم وكذابه
الروح للرحمن جل جلاله هي من ضغائن علمه وغيابه
غلبوا على أعصابهم فتوهموا أوهام مغلوب على أعصابه
صديقان لدودان
كان يطيب للشاعر حافظ إبراهيم، شاعر النيل، أن يداعب أحمد شوقي، أمير الشعراء. وكان احمد شوقي جارحا في رده على الدعابة، ففي إحدى ليالي السمر انشد حافظ إبراهيم هذا البيت ليستحث شوقي على الخروج عن رزانته المعهودة:
يقولون إن الشوق نار ولوعة فما بال شوقي اصبح اليوم باردا
فرد عليه احمد شوقي بأبيات قارصة قال في نهايتها:
أودعت إنسانا وكلبا وديعة فضيعها الإنسان والكلب حافظ
ورغم ذلك يرى زكي مبارك أن الأحقاد بين شوقي وحافظ، كأحقاد الأطفال تذوب بعد ليال ففي عام 1927 أقيمت حفلة عربية لتكريم شوقي فأنشد حافظ قصيدا جاء فيه:
أمير القوافي قد أتيت مبايعا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
فدعاه شوقي وقبل جبينه والدمع في عينيه، ثم شاء القدر أن يموت حافظ قبل شوقي بأسابيع فقال شوقي يبكيه:
قد كنت أؤثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول سلامة قدر وكل منية بقضاء
وودت لو اني فداك من الردى والكاذبون المرجفون فدائي
الناطقون عن الضغينة والهوى الموغرو الموتى على الأحياء
منح الله شوقي موهبة شعرية فذة، فكان لا يجد عناء في نظم القصيدة، فدائمًا كانت المعاني تنثال عليه انثيالاً، يغمغم بالشعر ماشيًا أو جالسًا بين أصحابه، ولهذا كان من أخصب شعراء العربية.
وكان شوقي مثقفًا ثقافة متنوعة الجوانب، وإلى جانب ثقافته العربية كان متقنًا للفرنسية، وقد نظم الشعر العربي في كل أغراضه من مديح ورثاء وغزل، ووصف وحكمة، كما نظم في مشاكل عصره مثل مشاكل الطلاب، والجامعات، كما نظم شوقيات للأطفال وقصصا شعرية، ونظم في المديح وفى التاريخ، وابتكر الشعر التمثيلي أو المسرحي في الأدب العربي.
كما اتجه شوقي إلى الحكاية على لسان الحيوان، وبدأ في نظم هذا الجنس الأدبي منذ أن كان طالباً في فرنسا؛ ليتخذ منه وسيلة فنية يبث من خلالها نوازعه الأخلاقية والوطنية والاجتماعية، ويوقظ الإحساس بين مواطنيه بمآسي الاستعمار ومكائده.
وقد صاغ شوقي هذه الحكايات بأسلوب سهل جذاب، وبلغ عدد تلك الحكايات 56 حكاية، نُشرت أول واحدة منها في "جريدة الأهرام" سنة "1892"، وكانت بعنوان "الهندي والدجاج"، وفيها يرمز بالهندي لقوات الاحتلال وبالدجاج لمصر.
وقد جمع شوقي شعره الغنائي في ديوان سماه "الشوقيات" الذي ضم 11320 بيتًا، ثم قام الدكتور محمد صبري السربوني بجمع الأشعار التي لم يضمها ديوانه، وصنع منها ديوانًا جديدًا في مجلدين أطلق عليه "الشوقيات المجهولة" والتي وصل عددها إلى ما يقرب من 4700 بيت، بما يشهد بخصوبة شوقي وثراء منجزه الإبداعي في الشعر، وبجدارته ليكون شاعر العروبة والإسلام في العصر الحديث.
وتبقى قصيدته في مدح الرسول"ص" من أعظم ما قيل في الشعر العربي لما تضمنته من سهولة في التعبير وصدق في العبارة في حبّ النبي الأكرم. يقول في مطلعها:
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وسناء
الروح والملأ الملائك حوله
للدين والدنيا به بشراء
والعرش يزهو والحظيرة تزدهي
والمنتهى والسدرة العصماء
والوحي يقطر سلسلا من سلسل
واللوح والقلم البديع رواء
بلغ أحمد شوقي قمة مجده، وأحس أنه قد حقق كل أمانيه بعد أن بايعه شعراء العرب بإمارة الشعر، ففي عام 1927، تألفت لجنة عربية لتكريمه، وخلعت عليه لقب "أمير الشعراء".
فبدأ يتجه إلى فن المسرحية الشعرية، وأخذ ينشر على الناس روائعه المسرحية، استمد اثنتين منها من التاريخ المصري القديم، وهما: "مصرع كليوباترا" و"قمبيز"، وواحدة من التاريخ الإسلامي هي "مجنون ليلى".
ومثلها من التاريخ العربي القديم هي "عنترة"، وأخرى من التاريخ المصري العثماني وهي "علي بك الكبير"، وله مسرحيتان هزليتان، هما: "الست هدي"، و"البخيلة".
ويصف طه حسين التحول الذي قلب إستراتيجية شوقي الشعرية بعد المنفى الإسباني قائلاً: "إنه قد تحوّل تحولاً خطيرًا حقّا لا نكاد نعرف له نظيرًا عند غيره من الشعراء الذين سبقوه في أدبنا العربي، إن شعره التقليدي قد تحرر من التقيد بظروف السياسة واستكشف نفسه، وإذا هو شاعر قد خلق ليكون مجدّدًا".
ظل شوقي محل تقدير الناس وموضع إعجابهم ولسان حالهم، وتوفى في 23 أكتوبر 1932م.
.
وتبقى أبياته خالدة الذكر لا تنسى يذكرها عشاق أحمد شوقي في مناسبات عدة ومن أشهر أبياته:
* قم للمعلم وفِه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا
* وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
* العلم يرفع بيتا لا عماد له ... والجهل يهدم بيت العز والشرف
* الناس صنفان موتى في حياتهم ... وآخرون ببطن الأرض أحياء
* إن الشجاع هو الجبان عن الأذى ... وأرى الجريء على الشرور جبانا
* قف دون رأيك في الحياة مجاهدا ... إن الحياة عقيدة وجهاد
* وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
* وما استعصى على قوم منال ... إذا الإقدام كان لهم ركابا
* أحرام على بلابله الدوح ... حلالٌ للطير من كل جنس؟
* إن اليتيم هو الذي تلقى له ... اُمَّا تخلت أو أبا مشغولا
* وليس الخلد مرتبة تلقى ... وتؤخذ من شفاه الجاهلينا
* وآثار الرجال إذا تناهت ... إلى التاريخ خير الحاكمينا
وبرغم التنوع في العواطف كان شوقي شاعر القومية المصرية ولعله أول شاعر جعل من همه وصف مصر في أحلامها وأهوائها وأمانيها، وأول شاعر ذاق ما في مصر من قرارة النعيم والبؤس وإن كان شفى ما في نفسه حين قال في غمز الحكومة التي سمحت بنفيه: "وطن توالت عليه حكومات وحكومات تقول فتجد، وتعمل فتهزل ، ولا تحسن من ضروب الإصلاح إلا أن تولي وتعزل".
في حديثه لشبكة الإعلام العربية "محيط" يضيف الناقد شعبان يوسف أن أحمد أبوالخير سكرتير أمير الشعراء الخاص دون كثيرا من السمات الشخصية لأحمد شوقي، متى كان يكتب، وماذا كان يفعل حين يمرض وكان معروفا عنه الوسوسة من الأمراض، وكيف كانت حساسيته تجاه الشاعر حافظ إبراهيم الذي كان يزعجه فكرة مقارنتهما بل وكان يرى في نفسه الموهبة الأكبر من حافظ حتى أن السكرتير دون في كتابه الذي طبع مرة واحدة عام 1934 م أن شوقي كان يرشي الكتّاب كي لا يكتبوا عن حافظ إبراهيم!.
يضيف يوسف: هناك مقدمة نشرها أحمد شوقي في الطبعة الأولى من ديوانه عام 1907 تحمل وجهة نظره في الشعر ولماذا يكتب، وهي التي رفعها إلى الخديوي إسماعيل وذيلها بتوقيع "عبدك المخلص أحمد شوقي" .
وهي عبارة تنم عن الحقيقة، فمعروف أن أحمد شوقي كان مخلصا للخديو إسماعيل حتى كتب قائلا: "ولدت بباب إسماعيل"، ويروي عن الخديوي أنه قال عن شوقي حين كان طفلا أنه سيصبح مشهورا وذو جاه ومحبا للمال، فقد كان شوقي وهو طفل مشرئبا بنظره لأعلى دوما، ولم ينظر إلى الأرض أبدا إلا حين ألقى الخديوي بقطعة من الذهب على الأرض، مما حدا بالخديوي ان يقول عنه هذا!.
ويرى يوسف أن شوقي قامة كبيرة رغم محاولة بعض الشوام مثل أدونيس إهانته والتعامل معه باعتباره شاعر نمطي، غير متجدد، لم يأت بجديد وهي برايه أيضا محاولة لنسف الشعرية عن الحياة المصرية بشكل عام.
كما يرى الناقد أن خير احتفاء بأحمد شوقي يكون عن طريق إعادة طبع الكتب المجهولة عنه والمقدمات التي كتبها لدواوينه، تلك الكتابات التي تتحدث عن شوقي الإنسان بضعفه وقوته مثلما يفعل الغرب مع مثقفيه الكبار، وهو دور يمكن أن يضطلع به المجلس الأعلى للثقافة بأن يصدر مجلدا كبيرا بالصور عن أحمد شوقي مثلما فعلوا مع تشيخوف.
يروي زكي مبارك في كتابه "أحمد شوقي" أن شوقي في أخريات أيامه أفرط في الإشادة بمحاسن الشام ولبنان مفسرا ذلك بأنه كان لا يحب إلا من يروي شعره وكان هواه مقصورا على من يؤمن بأنه أشعر الناس، وقد وجد في سوريا ولبنان جماعات كثيرة تعرف من سرائر شعره أكثر مما يعرف وتذهب في تمجيده إلى آفاق لا يطيف بها الخيال..
ولذلك – يواصل زكي مبارك – تلطف شوقي في الحديث عن المسيحية لمراعاة عشاق شعره من النصارى العرب، و كما يروي الكتاب هو أنه وجد في نصارى لبنان رجالا يؤمنون بأدبه الرفيع فجازاهم وفاء بوفاء، ومما جاء في مدحه للشام:
خلقت لبنان جنات النعيم وما نبئت أن طريق الخلد لبنان
حتى انحدرت إلى فيحاء وارفة فيها الندى وبها "طي" و"شيبان"
يافتية الشام شكرا لا انقضاء له لو أن إحسانكم يجزيه شكران
ما فوق راحاتكم يوم السماح يد ولا كأوطانكم في البشر أوطان
وخلاصة القول كما يقول الكتاب أن عواطف شوقي منوعة الأصول والفروع فقد سما بنفسه عن الشعبوية ورأى أن يكون شعره ميراث الشرق على ما فيه من اختلاف النوازع والميول:
كان شعري الغناء في فرح الشرق وكان العزاء في أحزانه
قد قضى الله أن يؤلفنا الجرح وأن نلتقي على أشجانه
كلما ان بالعراق جريح لمس الشرق جنبه في عمانه
وعلينا كما عليكم حديد تتنزى الليوث في قضبانه
نحن في الفقه بالديار سواء كلنا مشفق على أوطانه
أمير الشعراء أحمد شوقي
لعنة الفراعنة
هناك خرافة تقول أن الفراعنة يلعنون من ينبش قبورهم بعد الموت، فقد وجد على كثير من القبور المصرية دعوات على من ينبشون قبور الملوك.
فقد أهدى اللورد كارنارفون إلى بنت ملك الإنجليز عقدا من العقود المصرية القديمة ففرحت به فرحا عظيما وأثابت مهديه أجزل الثواب فلما سمعت أن اللورد كارنارفون لسعته بعوضة فمات نزعت العقد من جيدها لئلا تلاحقها لعنة الفراعنة وعن هذه القصة يقول شوقي :
لا تسمعن لعصبة الأرواح ما قالوا بباطن علمهم وكذابه
الروح للرحمن جل جلاله هي من ضغائن علمه وغيابه
غلبوا على أعصابهم فتوهموا أوهام مغلوب على أعصابه
صديقان لدودان
كان يطيب للشاعر حافظ إبراهيم، شاعر النيل، أن يداعب أحمد شوقي، أمير الشعراء. وكان احمد شوقي جارحا في رده على الدعابة، ففي إحدى ليالي السمر انشد حافظ إبراهيم هذا البيت ليستحث شوقي على الخروج عن رزانته المعهودة:
يقولون إن الشوق نار ولوعة فما بال شوقي اصبح اليوم باردا
فرد عليه احمد شوقي بأبيات قارصة قال في نهايتها:
أودعت إنسانا وكلبا وديعة فضيعها الإنسان والكلب حافظ
ورغم ذلك يرى زكي مبارك أن الأحقاد بين شوقي وحافظ، كأحقاد الأطفال تذوب بعد ليال ففي عام 1927 أقيمت حفلة عربية لتكريم شوقي فأنشد حافظ قصيدا جاء فيه:
أمير القوافي قد أتيت مبايعا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
فدعاه شوقي وقبل جبينه والدمع في عينيه، ثم شاء القدر أن يموت حافظ قبل شوقي بأسابيع فقال شوقي يبكيه:
قد كنت أؤثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول سلامة قدر وكل منية بقضاء
وودت لو اني فداك من الردى والكاذبون المرجفون فدائي
الناطقون عن الضغينة والهوى الموغرو الموتى على الأحياء
منح الله شوقي موهبة شعرية فذة، فكان لا يجد عناء في نظم القصيدة، فدائمًا كانت المعاني تنثال عليه انثيالاً، يغمغم بالشعر ماشيًا أو جالسًا بين أصحابه، ولهذا كان من أخصب شعراء العربية.
وكان شوقي مثقفًا ثقافة متنوعة الجوانب، وإلى جانب ثقافته العربية كان متقنًا للفرنسية، وقد نظم الشعر العربي في كل أغراضه من مديح ورثاء وغزل، ووصف وحكمة، كما نظم في مشاكل عصره مثل مشاكل الطلاب، والجامعات، كما نظم شوقيات للأطفال وقصصا شعرية، ونظم في المديح وفى التاريخ، وابتكر الشعر التمثيلي أو المسرحي في الأدب العربي.
كما اتجه شوقي إلى الحكاية على لسان الحيوان، وبدأ في نظم هذا الجنس الأدبي منذ أن كان طالباً في فرنسا؛ ليتخذ منه وسيلة فنية يبث من خلالها نوازعه الأخلاقية والوطنية والاجتماعية، ويوقظ الإحساس بين مواطنيه بمآسي الاستعمار ومكائده.
وقد صاغ شوقي هذه الحكايات بأسلوب سهل جذاب، وبلغ عدد تلك الحكايات 56 حكاية، نُشرت أول واحدة منها في "جريدة الأهرام" سنة "1892"، وكانت بعنوان "الهندي والدجاج"، وفيها يرمز بالهندي لقوات الاحتلال وبالدجاج لمصر.
وقد جمع شوقي شعره الغنائي في ديوان سماه "الشوقيات" الذي ضم 11320 بيتًا، ثم قام الدكتور محمد صبري السربوني بجمع الأشعار التي لم يضمها ديوانه، وصنع منها ديوانًا جديدًا في مجلدين أطلق عليه "الشوقيات المجهولة" والتي وصل عددها إلى ما يقرب من 4700 بيت، بما يشهد بخصوبة شوقي وثراء منجزه الإبداعي في الشعر، وبجدارته ليكون شاعر العروبة والإسلام في العصر الحديث.
وتبقى قصيدته في مدح الرسول"ص" من أعظم ما قيل في الشعر العربي لما تضمنته من سهولة في التعبير وصدق في العبارة في حبّ النبي الأكرم. يقول في مطلعها:
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وسناء
الروح والملأ الملائك حوله
للدين والدنيا به بشراء
والعرش يزهو والحظيرة تزدهي
والمنتهى والسدرة العصماء
والوحي يقطر سلسلا من سلسل
واللوح والقلم البديع رواء
بلغ أحمد شوقي قمة مجده، وأحس أنه قد حقق كل أمانيه بعد أن بايعه شعراء العرب بإمارة الشعر، ففي عام 1927، تألفت لجنة عربية لتكريمه، وخلعت عليه لقب "أمير الشعراء".
فبدأ يتجه إلى فن المسرحية الشعرية، وأخذ ينشر على الناس روائعه المسرحية، استمد اثنتين منها من التاريخ المصري القديم، وهما: "مصرع كليوباترا" و"قمبيز"، وواحدة من التاريخ الإسلامي هي "مجنون ليلى".
ومثلها من التاريخ العربي القديم هي "عنترة"، وأخرى من التاريخ المصري العثماني وهي "علي بك الكبير"، وله مسرحيتان هزليتان، هما: "الست هدي"، و"البخيلة".
ويصف طه حسين التحول الذي قلب إستراتيجية شوقي الشعرية بعد المنفى الإسباني قائلاً: "إنه قد تحوّل تحولاً خطيرًا حقّا لا نكاد نعرف له نظيرًا عند غيره من الشعراء الذين سبقوه في أدبنا العربي، إن شعره التقليدي قد تحرر من التقيد بظروف السياسة واستكشف نفسه، وإذا هو شاعر قد خلق ليكون مجدّدًا".
ظل شوقي محل تقدير الناس وموضع إعجابهم ولسان حالهم، وتوفى في 23 أكتوبر 1932م.
.
وتبقى أبياته خالدة الذكر لا تنسى يذكرها عشاق أحمد شوقي في مناسبات عدة ومن أشهر أبياته:
* قم للمعلم وفِه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا
* وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
* العلم يرفع بيتا لا عماد له ... والجهل يهدم بيت العز والشرف
* الناس صنفان موتى في حياتهم ... وآخرون ببطن الأرض أحياء
* إن الشجاع هو الجبان عن الأذى ... وأرى الجريء على الشرور جبانا
* قف دون رأيك في الحياة مجاهدا ... إن الحياة عقيدة وجهاد
* وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
* وما استعصى على قوم منال ... إذا الإقدام كان لهم ركابا
* أحرام على بلابله الدوح ... حلالٌ للطير من كل جنس؟
* إن اليتيم هو الذي تلقى له ... اُمَّا تخلت أو أبا مشغولا
* وليس الخلد مرتبة تلقى ... وتؤخذ من شفاه الجاهلينا
* وآثار الرجال إذا تناهت ... إلى التاريخ خير الحاكمينا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق